الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
فإذا سبّ المشركون اللّه في مجلس من مجالسهم مع المسلمين، شعروا أنهم أصابوا من المسلمين مقتلا، وإذا سبّ المسلمون آلهتهم لم يكن في ذلك ما يزعجهم أو يقلقهم، وإن يكن شيء من ذلك فهو شيء قليل لا يكاد يحسّ له أثر! شأن الخسيس يتطاول على الكريم، فإذا ناله الكريم بأذى لم يتأثر له.{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} والعدو: العدوان والبغي. في حمق وسفاهة وطيش.أي ولا تتعرضوا للآلهة الذين يدعوهم المشركون من دون اللّه، فيسبّوا اللّه عدوا، أي أنهم يسرعون إلى سبّ اللّه، ويجدونها فرصة لهم لينالوا منكم بالتعرض بالسبّ لأقدس المقدسات، وأكرم الحرمات عندكم.وفى قوله تعالى: {عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون اللّه حق قدره، ولا يعلمون ما تعلمون أنتم أيها المؤمنون من جلاله وقدسيته وعظمته. فلا يتوقفون عند أية سانحة تسنح لهم للتطاول على اللّه.وقوله تعالى: {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} هو عزاء للمسلمين لما ينالهم من تطاول المشركين على اللّه، واستخفافهم به.. فذلك لأنهم لم يعرفوا اللّه حق المعرفة، وأنهم مشغولون عنه بآلهتهم تلك، وأنها- على ما هي عليه ضعف وهوان- ذات شأن عند المشركين، الذين آمنوا بها وعبدوها.. وهكذا الناس وما يحبّون ويبغضون.. هم في هذا مذاهب شتّى.. من يحبه قوم، يبغضه آخرون، ومن يبغضه أناس، يحبّه أناس غيرهم.. {كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}.وقوله تعالى {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} الضمير في {ربهم} يعود إلى الناس الذين تضمهم هذه الأمم.. أي أن الناس جميعا على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وأعمالهم سيردّون إلى اللّه.. وهنا يعرف كل إنسان حقيقة ما كان عليه.. من حق أو باطل، وصفة ما كان يعمل.. من خير أو شر.قوله سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها}.الآية التي أقسم المشركون على أنهم يؤمنون بها لو جاءتهم، ووقعت تحت حواسّهم- هي التي كانوا يقترحونها على النبيّ، فيما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [5: الأنعام] وقوله سبحانه: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} [7- 8: الفرقان].. وقوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [90- 92: الإسراء].هذه هي بعض الآيات التي أقسموا باللّه جهد أيمانهم- أي قسما مؤكدا بكل المؤكدات- لو جاءتهم آية منها ليؤمننّ بها، ويتخذونها دليلا على صدق النبيّ! وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} هو ردّ من اللّه تعالى عليهم، أمر النبيّ الكريم أن يلقاهم به.. فإنه- أي النبيّ- لا يملك من تلك الآيات شيئا، وإنما هي من اللّه سبحانه وتعالى، ينزّلها بقدر، وتدبير وحكمة، على من يشاء، متى يشاء.وقوله سبحانه: {وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} هو التفات للمؤمنين الذين سمعوا الجواب الذي أجاب به النبيّ على ما يقترحه المشركون عليه من آيات.. وفى هذا الالتفات ردّ على تطلّعات بعض المسلمين الذين كانوا يتوقعون أن يجيء النبيّ بمثل هذه الآيات، ليقطع على المشركين حجتهم، ولينهى الخصومة التي بينه وبينهم، وبهذا تنطفئ نار الشرّ المحتدم بينهم وبين المؤمنين، حين تدخلهم تلك الآية في دين اللّه، ويكونون من المؤمنين.وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى في هذا الردّ عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ليسوا طلاب هدى يملأ صدورهم طمأنينة وإيمانا، ولكنهم أصحاب هوى، وأتباع ضلال، لا يريدون بهذه المقترحات التي يقترحونها إلّا اللجاج في العناد، والضلال.وفى قوله تعالى: {وَما يُشْعِرُكُمْ} إشارة إلى أن ما بالمسلمين من أمر هؤلاء المشركين في هذا الموقف، هو مجرد مشاعر وأحاسيس، وليس إدراكا، ولا علما.. إذ أن المسلمين كانوا يعلمون من عناد هؤلاء المشركين أنهم لن يؤمنوا بأية آية، ولكن ما كان يجده المسلمون منهم من عنت وإرهاق ألقى في شعورهم شيئا من الأمل، يتعلّلون به، في مجيء تلك الآية المقترحة، التي إن لم يؤمن بها هؤلاء المشركون، فلا أقلّ من أن تخفف من عداوتهم للمؤمنين وعدوانهم عليهم.وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.هو توكيد لعدم إيمان المشركين بهذه الآيات التي تتنزل عليهم حسب مقترحاتهم، وأنهم إذا التقوا بها، فإنما يلقونها بقلوب مريضه، وأبصار زائغة، وألسنة تردد كلمات الزور والبهتان، كما كان ذلك شأنهم مع آيات القرآن الكريم التي التقوا بها، وقالوا فيها ما قالوا من زور وبهتان.. ثم ينتهى موقفهم مع الآيات التي اقترحوها كما انتهى مع الآيات التي جاءهم بها النبيّ.طغيان، وعناد. وكفر وضلال..{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} [41: الإسراء].
والذي جعل الأشعري يقول بالكسب هو ما رآه في الإنسان من إرادة وقدرة على الفعل أو الترك، ثم ما يراه من جهة أخرى من قدرة اللّه المطلقة الشاملة، وعلمه المحيط بكل شيء، فلم يرتض أن يقول إن العبد خالق لأفعاله، لأن الخلق للّه، ولم يقبل أن يجعل العبد آلة مسخرة، لأنه يراه يعمل بإرادة، ويتحرك بقدرة، ويقدم أو يحجم عن تقدير وتفكير.. فلابد- والأمر كذلك- أن يضيف إلى الإنسان شيئا مما يعمل، لا كل ما يعمل، وسمّى هذا كسبا.يقول الأشعري: والعبد قادر على أفعال العباد.. إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية، بين حركات الرّعدة والرعشة،- التي هي حركات اضطرارية- وحركات الاختيار والإرادة.. إن الحركات الاختيارية حاصلة من اختيار القادر.. والمكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة.وعلى أىّ، فإن نظرية الكسب هذه، قد أثارت جوّا من التفكير عند الباحثين في هذه المشكلة، وكانت معتمد الذين لا يقولون بقول المعتزلة، من أن للإنسان اختيارا مطلقا في أفعاله، وإنّما للإنسان نوع من الاختيار، ودرجة من الإرادة، حيث يضعون الإنسان في منزلة بين الاختيار والجبر، فلا هو مختار مطلق، ولا هو مجبر ملزم.. إن له إرادة، ولكنها إرادة مقيدة بأكثر من قيد.ولقد صار الأشعري بقوله هذا زعيما لحركة أطلق عليها لفظ الأشاعرة نسبة إليه، ثم أصبحت هذه الحركة معبرة عن رأى أهل السنة.وقد ظاهر هذه الحركة كثير من علماء السنّة وفقهائها.. منهم إمام الحرمين.. أبو المعالي الجويني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وفخر الدين الرازي، والإمام الغزالي، ولسان الدين بن الخطيب.. وكثير غيرهم.حركة الأشاعرة:يدور رأى الأشاعرة- كما أشرنا من قبل- على القول بأن الإنسان في منطقة حرام، بين الجبر والاختيار.فالإنسان مختار في قالب مجبر، وأنه أشبه براكب سفينة تمخر عباب المحيط، فهو حرّ مختار يسير كيف يشاء، وأين يشاء، داخل هذه السفينة، ولكنه مجبر مسيّر هو وسفينته بعوامل خارجية تحيط به وبالسفينة.. كالأنواء، والعواصف وغيرها.. مما يتصل بسلامة السفينة وقوة احتمالها.. كذلك الإنسان في سفينة الوجود! هو حرّ مطلق، ولكنه مقيد بالنظام العام للوجود! فالأشاعرة هنا قريبون من الفلاسفة الغربيين القائلين بنظرية الاتفاقية، أو الظروف والمناسبات.. ومعناها أن كل فعل إنما هو في الحقيقة للّه، ولكنه يظهر على النحو الذي يظهر فيه، إذا تحققت ظروف خاصة: إنسانية، أو غير إنسانية، حتى لكأنّما يخيل للإنسان أن الظروف هي التي أوجدت هذا الفعل.والأشعري، يرى ألا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث، وإنما جرت سنّة اللّه بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة له، ويسمّى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من اللّه تعالى، وكسبا من العبد، في متناول قدرته واستطاعته.هذا هو المحتوى الإجمالى لمذهب الأشاعرة غير أن لكل صاحب قول في هذا المذهب اتجاها خاصا في تقرير هذه القضية، وتحريرها.. كما سنرى في عرض هذه النماذج من المقولات.لسان الدين بن الخطيب ورأيه في الكسب:يرى لسان الدين بن الخطيب، أن الكسب فعل يخلقه اللّه في العبد، كما يخلق فيه القدرة، والإرادة، والعلم.. فيضاف الفعل إلى اللّه خلقا لأنه خالقه، وإلى العبد كسبا لأنه محلّه الذي قام به.يقول ابن الخطيب:وإذا كانت العرب تقول: حرّكت القضيب فتحرك، فتجعل الحركة بين فاعلين، حركة للمتحرك، وفعلا للمحرّك، فذلك- أي ما يصدر عن الإنسان- أقرب، لوجود القصد، والعلم، والقدرة.. في محيط الإنسان.. ثم إن الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب. ولا طاعة ولا معصية- أي للعبد- من حيث الخلق!والخلق لا يصح أن يضاف إلى العبد، لأنه إيجاد من عدم، والفعل موجود بالقدرة القديمة، لعموم تعلق القدرة الحادثة بها.. فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثر.. وهذه- أي القدرة الحادثة- تصلح للتأثير لولا المانع، وهو وجود القدرة القديمة، لأنهما إذا تواردا- أي اجتمعا: القدرة القديمة والحادثة- لم يكن للقدرة الحادثة تأثير!! فابن الخطيب، يرى للإنسان قصدا، وعلما، يلقى بهما ضروب الأمور في الحياة.. فهذا جانب حر، أو منطقة حرّة في كيان الإنسان.. ولكنه يرى من جهة أخرى أن الأفعال كلها مخلوقة للّه، بإرادة أزلية سابقة شاملة، وأن إرادة الإنسان لا تؤثر في القدرة القديمة.فالإنسان محكوم عليه أن ينفّذ ما وقع في إرادة اللّه، وأن إرادة الإنسان، وقصده، وعلمه- كل هذا، لا يغيّر من المقدّر عليه شيئا.. فالإنسان حر إلى أن يفرغ من الفعل الذي قدّر عليه بإرادة سابقة أن يقع على يديه.وتسأل: ما قيمة هذه الحرّية مع ما سبق من إرادة اللّه وقدرته؟ إن الإنسان في ظاهر الأمر يبدو حرّا طليقا، ولكن قوة غير ظاهرة هي التي تقوده إلى ما سبق به علم اللّه، وقضت به إرادته.. ومرة أخرى: ما قيمة هذه الحريّة؟أتراها تدفع شيئا مما قضى به اللّه وقدّره؟والجواب: كلا.. إنها لا تدفع قضاء ولا تردّ قدرا.. ولكنها حرية تتيح للإنسان أن يبرز ذاته، وأن يعمل قواه كلها، وأن يفرض وجوده على الحياة، وأن يبسط سلطانه على الأشياء، وإن تفلّتث منه وخرجت من يديه! وذلك شيء ليس بالقليل في وجود الإنسان الذي لا قيمة له بغير هذه الحرية التي تمنحه الاستعلاء على الأشياء، وتريه من نفسه أنه قادر، مستطيع، عالم، مريد.. وإن لم يكن قادرا، ولا مستطيعا، ولا عالما، ولا مريدا.إمام الحرمين ورأيه في الكسب:هو أبو المعالي، عبد الملك بن عبد اللّه الجويني، المعروف بإمام الحرمين (توفى سنة 478 هجرية).وقد نزع بنظرية الكسب منزعا آخر.. إنه يطلق حرّية الإنسان من جانب، ويربطه بالأسباب الخارجة عن محيطه من جانب آخر.. ثم يجعل أفعال الإنسان- تبعا لهذا- قسمة بين إرادته وبين الأسباب الملازمة.يقول:نفى القدرة والاستطاعة عن الإنسان، مما يأباه العقل والحسّ.. فلابد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث والخلق.فإن الخلق يشعر باستقلال في إيجاد الفعل من العدم، وذلك من شأن اللّه وحده.والإنسان كما يحسّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضا عدم الاستقلال.. فالفعل يستند وجودا إلى القدرة- أي القدرة الإنسانية.والقدرة تستند وجودا إلى سبب آخر يكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة!وكذلك يستند سبب إلى سبب، حتى ينتهى إلى مسبب الأسباب.فهو- أي اللّه- الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغنى على الإطلاق.. على خلاف الأسباب، فإن كل سبب مستغن من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى، هو المطلق الذي لا حاجة له ولا افتقار..ورأى إمام الحرمين- كما ترى- غير صريح في حرّية الإنسان واضطراره، إنه يضع الإنسان في منطقة الذبذبات الاختيارية المقيدة في مجال الاضطرار.انظر:الفعل يستند وجودا إلى القدرة، أي القدرة التي تحمل الإنسان على اختيار فعل دون فعل.. وهذا واضح.والقدرة تستند وجودا إلى سبب! ومعنى هذا أن القدرة التي يواجه بها الإنسان أىّ أمر هي وليدة سبب، وهذا السبب الذي به أصبح الإنسان ذا قدرة، يتولد من أسباب كثيرة، بعضها وراثي، وبعضها كسبى، وهى في الواقع كل كيان الإنسان، الذي ليس للإنسان- في الواقع- أثر كبير في تكييفه.فهذه الأسباب التي توجد القدرة، هي موضع النظر في هذه القضية.فمن أوجدها وقدّرها؟ هذا هو أساس المشكلة التي يطلب علاجها.ثم أليس هذا هو رأى الجاحظ المعتزلي، الذي يقول: إن أفعال الإنسان كلها داخلة في نسيج حوادث الطبيعة، وإن إرادة الإنسان هي القوة العاملة فيه، وإن هذه الإرادة هي فرع العلم، وثمرة من ثمراته، وإن العلم اضطراري يأتى من أعلى؟فالإنسان بمقتضى هذا القول، عند إمام الحرمين، مجبر في صورة مختار، أو مختار في حال مقيد!رأى الغزالىّ في الكسب:يذهب الغزالي في قضية القدر مذهب التسليم، فيأخذ بظاهر آيات الكتاب، ولا يرضى لعقله الفلسفي أن يتناول هذه القضية.يقول الغزالي: اللّه تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا، وخلق الاختيار والمختار جميعا.. فأما القدرة فوصف للعبد، وخلق للرب، وأما الحركة، فخلق للربّ، ووصف للعبد وكسب له.ومعنى هذا- كما يقول الغزالي- أن اللّه خالق كل شيء.. القدرة والمقدور جميعا.. فليس للعبد شيء إذن، إن له بالعمل نوعا من الصلة، وهو الكسب الذي يقول به الأشعري! ثم يقول الغزالي: واعلم أن من ظنّ أن اللّه تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمر ونهى ووعد وتوعّد، لغير قادر مختار- فهو مختلّ المزاج، محتاج إلى علاج!! وهذه حجة اعتمد فيها الغزالي على النقل، أكثر من اعتماده على العقل.رأى الفارابي في الكسب:يقول الفارابي:وللنفس بطبيعتها نزوع، ولمّا كانت تحسّ وتتخيّل فلها إرادة كسائر الحيوان، غير أن الاختيار للإنسان فقط.. لأن الاختيار يقوم على الرويّة، وميدانه ميدان العقل الخالص.. فالاختيار متوقف على أسباب من الفكر.فكان الاختيار والاضطرار في وقت واحد.. لأنه- أي العقل- بحسب أصله الأول، مقدّر في علم اللّه.ثم يقول:والاختيار الإنسانى، إذا فهم على هذا النحو لا يستطيع أن يقهر الشهوة إلا قهرا ناقصا، لأن المادة تقف في سبيله، وعلى هذا لا تكتمل حرّية النفس الناطقة إلا إذا تحررت من قيود المادة، أعنى إذا صارت النفس عقلا! وواضح أن رأى الفارابي يتفق مع رأى إمام الحرمين.. لأن الاختيار الذي يقول به، متوقف على أسباب من الفكر.. والعقل مقدّر في علم اللّه، والإنسان إنما يعمل بما وهبه اللّه من عقل.رأى الفيلسوف محمد إقبال:ويقول الفيلسوف الباكستانى محمد إقبال في هذا الموضوع:ولا شكّ أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائى، ومن ثمّ يكون فعلها غير متلبّأ به- يتضمن تحديدا لحرية الذات المحيطة بكل شيء يريد إقبال أن يقول: إن إرادة الإنسان التي تخلق من تلقاء نفسها، فيها تحديد لإرادة اللّه المطلقة، إذ كانت هناك إرادات تعمل مستقلّة عن تلك الإرادة الشاملة.ثم يقول إقبال:ولكنّ هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى- ذات اللّه- من خارج، بل نشأ عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفى بعض الذوات المتناهية- أي ذوات البشر- لتقاسمه.. في الحياة، والقوة، والاختيار!.ومعنى هذا- كما يقول إقبال- أنه لا تعارض بين إرادة اللّه وإرادة الإنسان، فاللّه سبحانه بإرادته الشاملة خلق إرادات تعمل في حدود معينة، هي حدود الإمكان البشرى.ثم يقول إقبال: وربّ سائل يقول: ولكن كيف يكون في الإمكان التوفاق بين التحديد، وبين القدرة المطلقة؟ويجيب على هذا بقوله:وكل فعل، سواء أكان متصلا بالخالق، أم غير متصل به، هو نوع من التحديد، يستحيل بغيره أن نتصوّر اللّه ذاتا فعّالة متحققة الوجود في الخارج ولو أننا تصورنا القدرة المطلقة تصورا مجردا، لكانت مجرد نوع من قوة عمياء، متقلبة الأهواء، ولا حدّ لها والقرآن يصوّر الطبيعة تصويرا واضحا محددا، بوصفها عالما يتألف من قوّى يتعلق بعضها ببعض، وعلى هذا، فهو- أي القرآن- يعتبر قدرة اللّه المطلقة وثيقة الصلة بحكمته الإلهية، ويرى أن قدرة اللّه غير المتناهية، تتجلّى لا فيما هو متعسف صادر عن الهوى، وإنما في المتواتر، المطرد، المنظم.يريد إقبال أن يقول: إن كل الحوادث الواقعة في الوجود، هي في الواقع تحديد لقدرة اللّه، لأنها- أي القدرة- تجرى بما قتضته الحكمة الإلهية التي أودعت في الوجود نظاما مطردا، والنظام في ذاته قيد من غير شك! ثم يقول إقبال في موضع آخر:فالمعصية الأولى للإنسان- معصية آدم- كانت أول فعل- أي للإنسان- تتمثل فيه حرّية الاختيار، ولهذا تاب اللّه على آدم، وغفر له وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعيّة للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير.. وعلى هذا فإن الحرية شرط في عمل الخير ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو في الحق مغامرة كبرى، لأن حريّة اختيار الخير، تتضمن حرية اختيار عكسه وكون المشيئة الإلهية اقتضت ذلك، دليل على ما للّه من ثقة في الإنسان.. ولقد بقي على الإنسان أن يبرهان على أنه أهل لهذه الثقة! وربما كانت مغامرة كهذه، هي وحدها التي تيسّر الابتلاء، والتنبيه للقوى الممكنة لوجودخلق {فى أحسن تقويم} ثم ردّ إلى {أسفل سافلين} وكما يقول القرآن: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.وهذا- في رأينا- أعدل رأى في هذه القضية!! ويعجبنى في هذا المقام رأى للفيلسوف الأمريكى رويس يصوّر به الصلة بين اللّه الإنسان، وهى صلة- كما يراها الفيلسوف، تجعل للّه- سبحانه- القدرة المطلقة، كما تجعل للإنسان قدرة عاملة داخل قدرة اللّه.. ويضرب الفيلسوف لهذا مثلا محكما من الرياضيات، التي تعتبر أكثر المعارف دقة وانضباطا.والمثل الذي ضربه رويس هو أنه وضع للّه سبحانه وتعالى دلالة من الأعداد، هي سلسلة- تبدأ بالواحد، ولا تنتهى.. هكذا:1، 2، 4، 5، 6، 7... إلى ما لا نهاية.. وهو اللّه سبحانه فهذا هو المطلق الذي يشتمل كل شيء.أما الموجودات، فقد صورها رويس في سلاسل عددية على هذا النحو الآتي:- 2- 4- 8- 16... إلى ما لا نهاية.3- 9- 27- 81... إلى ما لا نهاية.5- 25- 125- 625... إلى ما لا نهاية.7- 49- 343- 2401... إلى ما لا نهاية.وهكذا تتوالى سلاسل الأعداد إلى ما لا نهاية أيضا.وكل عدد من هذه الأعداد يمثل فرادا من أفراد الناس.ويلاحظ في هذه الأعداد الإنسانية:أولا: أنها داخلة جميعها في السلسلة الأولى، إذ جميع ما فيها من أعداد تشتمل عليه السلسلة الأولى المطلق.وثانيا: أنها تتميز بطابع فريد، يجعلها وحدة قائمة بذاتها، ليس بينها وبين غيرها اتفاق مطلق.هذا المثل يعطينا تصورا واضحا للصلة التي بين الإنسان وبين اللّه، من جهة، وبين الإنسان وبين غيره من الناس من جهة أخرى.ففى كل سلسلة إنسانية شيء من السلسلة الأولى اللّه أو المطلق، وهى واقعة في مضمونها.وهذا يعنى أن للإنسان ذاتية خاصة، وإن كانت تلك الذاتية ضمن مشتملات الذات الأولى، ومعنى هذا أيضا أن الإنسان مطلق من جهة، ومقيد من جهة أخرى.ثم إن الاختلاف بين هذه السلاسل يعنى أن الناس لابد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم.. كل إنسان كون مستقل بذاته، داخل هذا الكون العظيم المطلق.والفيلسوف وليم چيمس يحقق ذاتية الإنسان، مع وجود اللّه.فلا يلغى إرادة الإنسان مع إرادة اللّه، ويرسم لهذا صورة قريبة من الصورة التي رسمها رويس.ولكنها صورة كلامية، وليست عددية.يقول چيمس:الإله الذي هو عقل، يشمل سائر العقول، وليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه، كما تصورت الديانات التقليدية، كلا، ولا هو حالّ في الوجود كله، كما تصورت فلسفة وحدة الوجود ولكن إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك في إدراكات بعينها، لكنه في الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلّة.فالصورة، أقرب إلى سلّم متدرج من عقول.. فعقل أكبر من عقل، لأنه يدرك إدراكات هذا العقل ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر.. وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هناك عقل مطلق يسع كل شيء.. فالعقل الأعلى فيه كل ما في الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.ومنطق هذا القول يقضى بأن لا تنتهى درجات السلّم العقلي عند نهاية ليس بعدها شيء، بل هناك احتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.. ومع وجود هذا الاحتمال، فإن الواقع المحقق هو أن هناك عقلا أعلى يسع العقول جميعا، وهو الذي يمكن أن يطلق عليه العقل المطلق، مادام ليس هناك ما هو فوقه.فإذا وقع الاحتمال المتوقع، وهو ظهور عقل أعلى، كان هو العقل المطلق.وهكذا.ولعل ماحدا بوليم چيمس إلى هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع في ذلك شخصية العقل الأدنى في العقل الأعلى- هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية.. وهذا ما يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى، لأنه يجعل في مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن، إذا كان ذلك الكائن شرا، ليصبح أفضل مما هو وأكمل.اللّه والإنسان.. مرة أخرى:لا يستطيع عاقل أن ينكر إرادة الإنسان المستقرة في كيانه، والتي بها يتعامل مع الحياة، فيقبل على الشيء أو يعرض عنه، حسب تقديره وإرادته.ولا يستطيع مؤمن باللّه أن ينكر قدرة اللّه الشاملة، وإرادته النافذة، وأن كل شيء بيد اللّه، وتحت مشيئته.هذان الأمران يكاد يتفق عليهما جميع المؤمنين باللّه، وهما: أن للّه إرادة وقدرة، وأن للإنسان إرادة وقدرة.ولكن الخلاف يقع ويشتد بين المؤمنين باللّه، حين ينظر الناظرون منهم إلى الإرادتين معا، وإلى القدرتين معا، في مجال التصريف والعمل.وقد رأينا ألوانا مختلفة من التفكير، ومذاهب متعددة من الرأى، في تقدير إرادة الإنسان وقدرته، إلى جانب إرادة اللّه وقدرته.فذهب قوم إلى أن إرادة الإنسان وقدرته لا أثر لهما إزاء إرادة اللّه وقدرته، بينما ذهب أقوام إلى عكس هذا، فقالوا: إن إرادة الإنسان لا تلغيها إرادة اللّه، ولا تعطّل عملها.. فالإنسان حرّ مختار يفعل ما يشاء، كيف يشاء.وقد كان يمكن أن يمضى القول بهذا الرأى أو ذاك، أو بالرأيين معا، دون أن يبدو أثر ظاهر في واقع الحياة إذا انتقلت من رأى إلى رأى.. فسيّان أن يكون الإنسان في واقعه يعمل في أمور مطلقة يخلقها كيف يشاء، ويدبّرها حيث يريد، أو في أمور قدّرت من قبل، وأخذت صورتها كاملة قبل أن يلتقى بها- مادام الإنسان لم يؤت قدرة على كشف الغيب والتحقق من نتائج الأعمال قبل معالجتها ووقوعها.إن الإنسان يعالج أمور الحياة حسب تقديره، ويمضيها حسب إرادته، ثم تجيء نتائجها التي لا يعلم علمها إلا بعد أن تقع.. وكون الإنسان يعمل في أمور قدّرت، أو في أمور لم تقدّر، فإن ذلك لا يؤثر على إرادته العاملة، ولا يتدخل تدخلا محسوسا في تدبيره أموره.أقول: إن القول بأن الإنسان مختار أو مجبر، والقول بأنه يعمل في أمور مقدرة أو غير مقدرة- إن هذا القول أو ذاك لا يظهر لهما أثر إلا إذا نزلت أعمال الإنسان منزل الحساب والجزاء، حين يحاسب على عمله، فيجزى عن الخير خيرا، وعن الشر شرا.هنا يتغير الموقف، ويصبح للقول باختيار الإنسان أو جبره، وللقول بالقدر أو بألّا قدر- نتائج خطيرة، يتعلق بها مصير الإنسان، وتتقرر بها سعادته أو شقاؤه في الدار الآخرة.فإذا قيل إن الإنسان حر مختار، كان معنى هذا أنه مسئول عن عمله الحسن أو السيّء، وأنه سينال ثوابه وعقابه على ما قدم من عمل، ولا حجة له أمام اللّه.وإذا قيل إنه مجبر مكره، وإنه يعمل بإرادة غالبة، وبقدر سابق، كان معنى هذا ألّا تبعة عليه، وبالتالى ألا ثواب على حسن، ولا عقاب على سيئ! ولكن الذي يقال هو غير هذا.فهناك دار الآخرة، وفيها ثواب وعقاب، وجنة للمؤمنين المتقين، ونار للعصاة المذنبين.وهنا تجيء التساؤلات والاعتراضات.ما ذنب الإنسان؟ وكيف يسأل عن أعمال مقدورة، محكوم عليه أن يعملها؟.وهنا تبرز مشكلة القضاء والقدر، وتصبح هذه المشكلة في مجال النظر والامتحان.وهنا تتفتح للكثير من الناس أبواب المنازعة في تدبير اللّه وفى حكمته، وفى قضائه وقدره.فمن مستسلم لحكمة اللّه وتدبيره، وقضائه فيه، مؤمن بأن ما أصابه من خير أو شر فهو بقضاء اللّه وقدره، راض بما قسم اللّه.. ومن متخبط متسخّط، يضيف إلى نفسه الأعمال الطيبة الناجحة، ويرمى القدر بما لا يرضيه وما لا يرضى عنه من الأعمال.وقد كان إبليس- لعنه اللّه- أول من احتج بالقدر بعد أن عصى أمر ربه، فلم يسجد لآدم كما أمره، فلما حل غضب اللّه عليه، لم يرجع على نفسه باللأئمة، ولم يستشعر الندم فيتوب كما تاب آدم، بل غلبت عليه شقوته، فقال: {رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.وقد تلقى كثير ممن غلب عليهم الشقاء من بنى آدم، هذه الحجة الضالة، عن إبليس، فتخلّوا عن كل خير، وغرقوا في كل ضلال، وبين أيديهم هذه الحجة الخادعة، التي يرددونها عند كل قولة ناصح، ينصح لهم، ويدعوهم إلى الإيمان والهدى، فيقولون ما حكاه اللّه عنهم في قوله تعالى: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [35: النحل] وقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا} [148: الأنعام] وقوله سبحانه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [47 يس] انظر كيف يفترون على اللّه الكذب؟ يؤمنون بقضائه وقدره، ويحتجون بمشيئته، ثم يكفرون به؟فالذين يحتجون بالقدر هذا الاحتجاج، لا يؤمنون باللّه، ولو آمنوا باللّه لآمنوا بقضائه وقدره، ولامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.فالقول بأن لو شاء اللّه ما أشركوا قول حق، ولكنه لا يصدر عن القائلين به لتقرير عموم إرادة اللّه وشمول مشيئته، ولو كان هذا متوجّه قولهم لكان ذلك إيمانا خالصا.. فاللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [99: يونس] ولكنهم يقولون هذا القول في سفسطة خبيثة، تهوى بهم إلى مهاوى الهالكين.ولهذا أنكر اللّه عليهم قولهم الذي قالوه في مشيئته، لأنهم- كما يقول ابن القيم- لم يذكروا ما ذكروا إثباتا لقدرة اللّه وربوبيته ووحدانيته، وافتقارا إليه، وتوكلا عليه، ولو قالوا ذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين لشرعه، ودافعين لأمره، فعارضوا أمره وشرعه ودفعوه بقضائه وقدره.أباطيل بعض المتصوفة:ولبعض المتصوفة فلسفة مريضة، تذهب بهم هذا المذهب الأعوج الأهوج، الذي يقود إلى الضلال والهلاك.. إنهم ينسبون إلى اللّه كل شيء من طاعات وسخافات معا.. إن كل ما يفعلونه حسن، لأنهم- حسب تصورهم المخبول- لا يعملون شيئا، وإنما هم ينفذون إرادة اللّه ومشيئته.. فكل أعمالهم طاعات، وكل سخافاتهم قربات، حتى ليقول قائلهم مخاطبا ربه في غير حياء:أصبحت منفعلا لما تختاره منىّ، ففعلى كله طاعات!فهذا الغبي الأحمق، هو منفعل- كما يقول- وليس فاعلا.. وليته انفعل بالطاعات.. وإنما هو منفعل بما يمليه عليه شيطانه الذي يوسوس له حين يفطر رمضان! وهو منفعل بمشيئة اللّه، حين يترك الصلاة عمدا، أو حين يشرب الخمر، ويأتى كل فاحشة جهارا في غير حياء!هو في تلك الأحوال- كما زيّن له الشيطان- قائم في محراب العبادة، لأنه ينفذ إرادة اللّه ويحقق مشيئته! {كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [12 يونس].طريق المؤمنين:أما المؤمنون حقا فمدعّوون إلى الإيمان بقضاء اللّه وقدره.. فاللّه خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير، فما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن.عن أبى هريرة- رضى اللّه عنه قال: لما نزل قوله تعالى على نبيه صلى اللّه عليه وسلم:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} قالوا- أي المؤمنون {الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن لم نشأ لم نستقم} فأنزل اللّه عز وجل:{وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.وعن ابن عباس- رضى اللّه عنهما- في قوله تعالى: {كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}.قال: وكذلك خلقهم حين خلقهم: مؤمنا وكافرا، وسعيدا وشقيا، وكذلك يعودون يوم القيامة، مهتدين وضلّالا.وقال مالك بن أنس: ما أضلّ من كذب بالقدر، لو لم يكن عليهم حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} لكفى بها حجة.وعن أبى حازم، قال: قال اللّه عز وجل {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}.أي فالتقىّ ألهمه التقوى، والفاجر ألهمه الفجور.وفوق هذا كله، وقبل هذا كله، قول الرسول الكريم: «لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه».وكان الحسن البصارى- رضى اللّه عنه- يقول: من كذّب بالقدر فقد كذّب بالحق، إن اللّه عز وجلّ، قدّر خلقا، وقدّر أجلا، وقدّر بلاء، وقدّر مصيبة، وقدّر معافاة.. من كذب بالقدر فقد كذّب بالقرآن.فالإيمان بالقدر، والتسليم بالمقدور والرضا به، هو الصميم من الإيمان، وهو دعوة الإسلام، وهو سبيل المؤمنين، وبغير هذا لا ينعقد إيمان، ولا يكمل دين.يقول ابن تيمية: وما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له، لأنه من تمام الرضا باللّه ربّا.. وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب.. فيتوب من المعايب، ويصبر على المصائب فإذا عمل العبد بطاعة اللّه عزّ وجل علم أنها بتوفاق اللّه، فيشكره على ذلك ويحمده، وإذا عمل بمعصية ندم على ذلك، وعلم أنها بمقدور جرى عليه، فذمّ نفسه، واستغفر ربه.. وليس لأحد على اللّه حجة، بل للّه الحجة على خلقه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ}.فاللّه سبحانه وتعالى خلق الخلق كما شاء، فجعلهم شقيا وسعيدا، قبل أن يخرجهم إلى الدنيا: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].وعلى هذا، فمطلوب من العبد أن يقول في كل ما يقع له، أو يقع منه: هذا بقضاء اللّه، ومشيئة اللّه.. يقول ذلك عن يقين لا شك فيه، فذلك هو الإيمان الذي يشدّ عزمات الإنسان في الشدائد، ويعينه على الحق، ويجعل منه إنسانا غير ضائع في الحياة.. إن زلّ فذلك بقدر سابق، ولكن يجب أن يرى نفسه في هذه الحال في موقف لا يرضى اللّه، فيبادر بالانسحاب من هذا الموقف بكل ما لديه من قوة وعزم وإيمان، مستعينا باللّه، تائبا إليه، نادما على ما وقع منه، فتلك هي سبيل المؤمنين، الذين يقول اللّه فيهم: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [135: آل عمران].يقول ابن تيمية: كل من احتجّ بالقدر فإنه متناقض.. فإنه لا يمكن أن يدع كل آدمىّ يفعل به ما يشاء.. فلابد إذا ظلمه ظالم أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكفّ من عدوانه، وعدوان أمثاله، فيقال له- أي للمحتج بالقدر-: إن كان القدر حجة، فدع كل أحد يفعل بك ما يشاء، وإن لم يكن حجّة، فبطل قولك: إن القدر حجة.ثم يقول: وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية أي القدر لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه، إنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعات قدرىّ، وعند المعصية جبرىّ، اه إن الأخذ بالأسباب، ودفع الأقدار، هو مما يقوم عليه نظام الحياة، وتشير به الحكمة، ويقضى به العقل، ومن ترك الأسباب فقد ألغى عقله، وأفسد وجوده، وأدخل الخلل على حياته.. إن الحيوان الأعجم لا يرضى هذه المنزلة التي صار إليها من يحتج بالقدر.. إن الحيوان يدفع الجوع بالأكل الذي يطلبه ويسعى إليه، وينال منه، ويدفع الظمأ بالماء، برد موارده، ويلتمس مواطنه، ويمدّ فمه إليه، وبتقى العدوّ المتربص به، بكل سلاح يقدر عليه، فيقاتل بقرونه، وأنيابه، ومخالبه، وأظفاره.. وبكيانه كله. وإن هو رأى من نفسه العجز عن لقاء عدوّه ومدافعته، طلب النجاة.. فرارا، وهربا.فالإنسان الذي يعطّل جوارحه، ويميت مشاعره، ويلقى بنفسه في منامة العجز والتواكل، محتجا بأن ما قدّر له سيقع، سواء سعى أم لم يسع- هذا الإنسان ليس أهلا لأن يعيش في الناس، أو يحسب في الأحياء. سأل بعض الصحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللّه:أرأيت أدوية لتداوى بها، ورُقى نسترقى بها، وتقى نتقى بها.. هل تردّ من قدر اللّه شيئا؟ فقال الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: «هى من قدر اللّه».فالأسباب من قدر اللّه، كما أن المسببات من قدر اللّه.. فمن لم يأخذ بالأسباب إلى مسبباتها فقد آمن وكفر، وذلك نفاق أشد من الكفر.يقول جعفر الصادق: إن اللّه تعالى أراد بنا شيئا، وأراد منّا شيئا، فما أراده بنا طواه عنّا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟ وذلك هو مقطع القول في تلك القضية الشائكة!.
|